كيف تتعامل الأم مع شؤون البيت والأبناء؟ هل تتشارك مع الأب في تفاصيل كل ما يجري بينها وبين الأولاد، أم أنها تخفي بعضها، اعتقاداً منها أنها أقدر على معالجة أمورهم؟ استطلاع يحاول مقاربة هذه الإشكالية.

لماذا يختار الأبناء أن تكون الأم أول من يعلم والأب آخر من يعلم؟ هل لأن الأم تقبل وتقول حاضر لكل كبيرة وصغيرة يطلبونها؟ أم لأنها أقدر من الآباء على التعامل معهم، والتكتم على أسرارهم وفهم عقليتهم وميولهم؟ أين مكامن الصواب والخطأ في هذا الموضوع؟

الأم في المقام الأول

في استطلاع شمل 100 سيدة متزوجة، سعت هذه الدراسة إلى معرفة ما إذا كانت أقدر على تدبر شؤون أبنائها بمعزل عن تدخل الزوج، محاولة الوقوف عند إيجابيات وسلبيات الموضوع. النتائج كانت مدهشة، حيث قالت 85 في المئة من الأمهات إن متابعة شؤون الأبناء وتفاصيل تربيتهم، هي مسؤولية الأم في المقام الأول، باعتبارها الأقدر على التعامل مع المشكلات الصغيرة الخاصة بالأبناء. في حين اعتبرت 70 في المئة من الأمهات أن تدخل الأب ومعرفته بما يفعله الأبناء، يؤديان إلى تعقيد الأمور في الأسرة، معتمدات في ذلك على قدرتهن على امتصاص الموقف، والتعامل مع المشكلات، بطريقتهن البعيدة عن العصبية والانفعال. في المقابل رفضت 30 في المئة من الأمهات اعتبار تدخل الأب يزيد في تعقيد الأمور، واعترفن بأهمية دوره في ما يخص تربية الأبناء والاطلاع على ما يفعلون.
وقد بين الاستطلاع أيضاً أن استئثار الأمهات بدور الأم والأب معاً في تربية الأبناء، ومتابعة شؤونهم، لا يقتصران على المواقف الكبيرة والمهمة، بل إن 70 في المئة من الأمهات، يؤكدن أنهن غير مضطرات إلى إبلاغ الأب بكل صغيرة وكبيرة يرتكبها الأبناء، مادام تدخله ووقوفه على ما يحدث يزيدان من تعقيد المشكلة، غير أن 30 في المئة من الأمهات يعترضن على تغييب الأب من الساحة المنزلية، باعتباره رب الأسرة أولاً وأخيراً.

أما ما كان لافتاً للانتباه، فهو أن لجوء الأمهات إلى حجب تصرفات الأبناء عن الآباء، كان بدافع العاطفة وحمايتهم من ردِّ فعل الأب، كما قالت 70 في المئة من السيدات. في حين اعترفت 30 في المئة منهن بأن الرغبة في تجنب التصعيد، الناتج عن تدخل الأب، يقف وراء حجبهن بعض تصرفات الأبناء، ما يفسر تحيز الأم العاطفي الذي غالباً ما يكون على حساب مصلحة أبنائها. والمفارقة، أن 90 في المئة من الأمهات، لا يخفين عن أزواجهن الأخطاء فقط، بل يسعين إلى حلها في السر بمعزل عن الأب تماماً.
والغريب، هو أن أكثر الأمور التي تخفيها الأم عن الأب، يتعلق عادة بهامش الحرية الكبير الذي تمنحه أبناءها، فـ65 في المئة من الأمهات يسمحن لأبنائهن بما لا يسمح به الأب عادة، وهذا ما يفسر مقولة الأب آخر من يعلم، بينما تقول 35 في المئة من الأمهات إن إبعاد الأب عما يحدث، سببه تقصير الأبناء الذي لا يرغبن في كشفه.

رضا وسرور
أما النقطة الأكثر إثارة للاستهجان، فتتعلق باعتراف 70 في المئة من الأمهات بعدم الشعور بالذنب لدى إخفائهن أخطاء الأبناء عن أزواجهن، بينما اعترفت 30 في المئة منهن فقط بشعورهن بالذنب تجاه الأزواج الذين هم آخر من يعلم.

ماذا يحدث حين تعتقد الأم أنها قادرة على تولّي شؤون أبنائها من دون العودة إلى والدهم؟ هل تكون النتائج دائماً مُرضية؟ أم أنها قد تندم على اللحظة التي جعلت فيها الأب آخر من يعلم؟
في هذا الاعتراف، تعبر أم منال عن ندمها على اعتقادها الوهمي، أنها قد تصلح لتكون أول وآخر من يعلم في البيت. تروي تفاصيل قصتها مع ابنتها، فتقول: أردت منح منال ما افتقدته في بيت أبي، فأعطيتها الحرية، ومنحتها الثقة، ولكن للأسف خانتها بعد أن لقنتني درس عمري. وتضيف: ما ارتكبته كان خطأ، خصوصاً عندما لعبتُ دور المتستر عن تصرفات ابنتي، فكذبت على والدها وزورت الحقيقة، حين ساعدتها على امتهان الكذب واللعب من وراء ظهره.

أعتقدت الأم أن من حق ابنتها العيش كبقية بنات الجامعة، فراحت تغطي على خروجها من المنزل بأعذار تختلقها، إلى أن افتضح الأمر: زوجي من عائلة محافظة، وابنتي من جيل يرفض الالتزام بقواعد التربية التقليدية التي نشأت عليها. لهذا كانت تلح عليَّ بالسماح لها بالخروج ليلاً مع صديقات الجامعة، لأضعف أمام دموعها، وأشعل لها الضوء الأخضر، حتى باتت الأعذار جاهزة أمام زوجي. بهذه الكلمات تختصر أم منال الأسباب التي دفعتها إلى إخفاء أخبار مشاوير ابنتها عن زوجها، وتقول: تارة كنت أخبره بأنها تدرس في بيت صديقتها فلانة، وتارة أُخرى أنها تحضر حفل زفاف أخت صديقتها، وكان يصدقني، ذلك أنه لم يكن ممكناً أن يشك في زوجته وابنته في الوقت نفسه.
هل كنت تعرفين بمكان وجودها؟ تجيب: لم أعتقد أنها ستخفي عني مثلما أخفي أنا عن والدها، فصدقتها وأطعتها ونفذت طلباتها حرفياً، لكن كانت النتيجة أنني كنت آخر من يعلم. وتلفت أم منال إلى أنها فوجئت بصديقة تسألها: هل تمت خطبة منال من دون علمنا؟. وحين سألتها الأم بسذاجة عن السبب وراء السؤال، سارعت فاعلة الخير إلى التوضيح: رأيتها برفقة شاب في المطعم الفلاني.
حاولت الأم السيطرة على انفعالها، لتعود إلى البيت ومعها خيبتها وغضبها: سألتها عن الشاب، وعن المطعم، فنفت الخبر مستعينة بإحدى صديقاتها الحميمات، كشاهد على وجودها معها في تلك الليلة بالذات.

وماذا حدث؟ تجيب: أخبرت والدها بالحقيقة، وشرحت له ما كنت أفعله بحسن نية، فأقام الدنيا على رأسي ورأسها واصفاً إياي بالزوجة المتآمرة. ومنذ ذلك الوقت سحب الزوج صلاحياتي كأم، ليتولى بنفسه شؤون البيت متدخلاً في كل كبيرة وصغيرة، بعد أن حرم ابنتي من الخروج من المنزل إلاّ برفقته.

دراسة في السر
حكاية وسيم، الذي يعمل كمترجم في أحد القطاعات الخاصة، لا تحمل العبرة نفسها. ذلك أن قصته مختلفة تماماً عن قصة منال. أحب وسيم دراسة الأدب الإنجليزي، في الوقت الذي اختار له والده دراسة التجارة، فما كان منه إلاّ أن قال: حاضر ليدرس ما يريد، ويدعي بأنه عمل بنصيحة أبيه.
يعود وسيم سبع سنوات إلى الوراء، عندما كان النقاش حول مستقبله والمجال الذي سيختاره للتخصص قائماً، فيقول: لم يكن من السهل إقناع أبي، فتوسلت أمي حتى تساعدني، وبالفعل لم تقصر (ماما) في دعمي. ويضيف: ذات مرة رأى أبي كتب الكلية على طاولتي، فراح يسألني عن سبب وجود الكتب الإنجليزية. وفي تلك اللحظة، راحت أمي تقول إنها كتب بنت جارتنا التي تدرس الأدب الإنجليزي، وقد نسيتها على مكتب وسيم.

مرت الأربع سنوات وأبي آخر من يعلم، أن ابنه يدرس الأدب الإنجليزي، حتى حصلت على الشهادة بمعدل ممتاز.

ورداً على سؤال حول ردِّ فعل والده، عندما عرف بالحقيقة، يجيب وسيم ضاحكاً: قاطعني مدة شهر، لكنه سرعان ما قدم لي هدية النجاح حين عرف بتفوقي وشهادة التقدير التي حصلت عليها.
الطرف المستفيد

قبل أن نسأل لماذا تخفي الأم عن زوجها بعض تصرفات أبنائها، علينا أن نعرف أولاً ماذا تخفي؟ ولعل خير من يجيب عن هذا السؤال، هو الطرف المستفيد، خاصة أن 90 في المئة من الأمهات أكدن أنهن يخفين عن أزواجهن أخطاء الأبناء.

يعتقد محمد جابر (موظف) أن تكتم الأم على أسرار أبنائها، هو السبب في اختيارها لتكون أول من يعلم، ويقول: شكلت أمي غطاء لتصرفاتي وأسراري، حيث كانت تخبئها عن أبي لتحميني من غضبه وردود فعله، الأمر الذي عمَّق علاقتي بها.

يستحضر محمد الموقف الأول الذي كان والده فيه آخر من يعلم، ويقول: كان ذلك، حين رأتني أمي أدخن وكنت حينها في الثامنة عشرة من عمري. ويضيف: غضبت الوالدة قليلاً، ثم ما لبثت أن هدأت، مؤكدة لي أنها لن تسارع إلى إخبار أبي. لجوء الأم إلى إخفاء هذا الموقف عن الأب، زرع في قلب محمد الطمأنينة، كما يقول. ويتابع: كنت متأكداً من أنها ستكتم السر، وتحميني من ردِّ فعل أبي وانفعاله. لهذا كان أن واصلت التدخين ولكن بحذر وحرص كبيرين.

طريقة تعامل الأم مع هذا الموقف، ساعدت محمد على الاعتماد عليها في كل كبيرة وصغيرة: إذا ما شم أبي رائحة التدخين في البيت، سارعت أمي إلى القول إن أصحابي هم الذين يدخنون، وإذا ما رأى بالصدفة علبة السجائر، أخبرته أن أحد زوارها نسيها في البيت. هكذا، استمر محمد في التدخين، واستمرت الأم في إخفاء الحقيقة، وبقي الأب آخر من يعلم.

يعتقد كنان أمين (طالب جامعي) أن هيبة الأب هي السبب في تراجع دوره إلى المرتبة الثانية. ويشير كنان إلى أن اعتماد الأبناء على طيبة قلب الأم، يشجعهم على الوثوق بها. وفي المقابل، تلعب هيبة الأب على حد قوله دوراً في بناء سور نفسي بيننا وبين آبائنا، فنخشاهم ونحسب ألف حساب لردود أفعالهم.